فصل: تفسير الآيات رقم (164- 166)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

هذه الجملة معترضة بين قصص بني إسرائيل جاءت مستطردة لمناسبة ذكر الرسول الأمي، تذكيرً لبني إسرائيل بما وعد الله به موسى عليه السلام، وإيقاظاً لأفهامهم بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو مِصداق الصفات التي علمها الله موسى والخطاب ب ‏{‏يا أيها الناس‏}‏ لجميع البشر، وضمير التكلم ضمير الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

وتأكيد الخبر ب ‏(‏إن‏)‏ باعتبار أن في جملة المخاطبين منكرين ومترددين، استقصاء في إبلاغ الدعوة إليهم‏.‏

وتأكيد ضمير المخاطبين بوصف ‏{‏جميعاً‏}‏ الدال نصاً على العموم، لرفع احتمال تخصيص رسالته بغير بني إسرائيل، فإن من اليهود فريقاً كانوا يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم نبيء، ويزعمون إنه نبيُء العرب خاصة، ولذلك لما قال رسول الله لابن صياد وهو يهودي أتشهد أني رسول الله، قال ابن صياد‏:‏ أشهد إنك رسول الأميين‏.‏ وقد ثبت من مذاهب اليهود مذهب فريق من يهود أصفهان يدعون بالعيسوية وهم أتباع أبي عيسى الأصفهاني اليهودي القائِل بأن محمداً رسول الله إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل، لأن اليهود فريقان‏:‏ فريق يزعمون أن شريعة موسى لا تنسخ بغيرها، وفريق يزعمون أنها لا تنسخ عن بني إسرائيل، ويجوز أن يبعث رسول لغير بني إسرائيل‏.‏

وانتصب ‏{‏جميعاً‏}‏ على الحال من الضمير المجرور، ب ‏(‏إلى‏)‏ وهو فعيل بمعنى مفعوُل أي مجموعين، ولذلك لزم الإفرادَ؛ لأنه لا يطابق موصوفه‏.‏

‏{‏الذي له ملك السماوات والأرض‏}‏ نعت لاسم الجلالة، دال على الثناء‏.‏

وتقديم المجرور للقصر، أي‏:‏ لا لغيره مما يعبده المشركون، فهو قصر إضافي للرد على المشركين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لا إله إلاّ هو‏}‏ حال من اسم الجلالة في قوة متفرداً بالإلهية، وهذا قصر حقيقي لتحقيق صفة الوحدانية، لا لقصد الرد على المشركين‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يُحيي ويميت‏}‏ حال،

والمقصود من ذكر هذه الأوصاف الثلاثة‏:‏ تذكير اليهود، ووعظهم، حيث جحدوا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أنه لا رسول بعد موسى، واستعظموا دعوة محمد، فكانوا يعتقدون أن موسى لا يشبهه رسول، فذُكّروا بأن الله مالك السماوات والأرض، وهو واهب الفضائِل، فلا يُستعظم أن يرسل رسولاً ثم يرسل رسولاً آخر، لأن الملك بيده، وبأن الله هو الذي لا يشابهه أحد في ألوهيته، فلا يكون إلهان للخلق، وأما مرتبة الرسالة فهي قابلة للتعدد، وبأن الله يحيي ويميت فكذلك هو يميت شريعة ويحيي شريعة أخرى، وإحياء الشريعة إيجادها بعد أن لم تكن‏:‏ لأن الإحياء حقيقته إيجاد الحياة في الموجود، ثم يحصل من هذه الصفات إبطال عقيدة المشركين بتعدد الآلهة وبإنكار الحشر‏.‏

وقد انتظم أن يفرع على هذه الصفات الثلاث الطلب الجازم بالإيمان بهذا الرسول في قوله‏:‏ ‏{‏فآمنوا بالله ورسوله النبي الأُمي‏}‏ والمقصود طلب الإيمان بالنبي الأمي؛ لأنه الذي سِيق الكلام لأجله، ولكن لما صُدّر الأمر بخطاب جميع البشر وكان فيهم من لا يؤمن بالله، وفيهم من يؤمن بالله ولا يؤمن بالنبي الأمّي، جُمع بين الإيمان بالله والإيمان بالنبي الأمي في طلب واحد، ليكون هذا الطلب متوجهاً للفرَق كلهم، ليجمعوا في إيمانهم بين الإيمان بالله والنبي الأمي، مع قضاء حق التأدب مع الله بجعل الإيمان به مقدماً على طلب الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم للإشارة إلى أن الإيمان بالرسول إنما هو لأجل الإيمان بالله، على نحو ما أشار إليه قوله تعالى‏:‏

‏{‏ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 150‏]‏، وهذا الأسلوب نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروح منه، فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ فإنهم آمنوا بالله ورُسله، وإنما المقصود زيادة النهي عن اعتقاد التثليث، وهو المقصود من سياق الكلام‏.‏

والإيمان بالله الإيمانُ بأعظم صفاته وهي الإلهية المتضمن إياها اسم الذات، والإيمان بالرسول الإيمانُ بأخص صفاته وهو الرسالة، وذلك معلوم من إناطة الإيمان بوصف الرسول دون اسمه العلم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ورسوله النبي الأمي‏}‏ التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة لقصد إعلان تحقق الصفة الموعود بها في التوراة في شخص محمد صلى الله عليه وسلم

ووصف النبي الأمي بالذي يؤمن بالله وكلماته، بطريق الموصولية للإيماء إلى وجه الأمر بالإيمان بالرسول، وإنه لا معذرة لمن لا يؤمن به من أهل الكتاب، لأن هذا الرسول يؤمن بالله وبكلمات الله، فقد اندرج في الإيمان به الإيمان بسائِر الأديان الإلهية الحق، وهذا نظير قوله تعالى، في تفضيل المسلمين‏:‏ ‏{‏وتؤمنون بالكتاب كله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 119‏]‏ وتقدم معنى الأمي قريباً‏.‏

وكلمات جمع كلمة بمعنى الكلام مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلاّ إنها كلمة هو قائِلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ أي قولُه‏:‏ ‏{‏رببِ ارْجِعُون لعليِّ أعْمل صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏‏.‏ فكلمات الله تشمل كتبه ووحيه للرسل، وأوِثر هنا التعبير بكلماته، دون كتبه، لأن المقصود الإيماء إلى إيمان الرسول عليه الصلاة والسلام بأن عيسى كلمة الله، أي أثَرُ كلمته، وهي أمر التكوين، إذ كان تكّون عيسى عن غير سبب التكون المعتاد بل كان تكونه بقول الله ‏{‏كُن‏}‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كُن فيكون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏، فاقتضى أن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمن بعيسى، أي بكونه رسولاً من الله، وذلك قطع لمعْذرة النصارى في التردد في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واقتضى أن الرسول يؤمن بأن عيسى كلمة الله، وليس ابن الله، وفي ذلك بيان للإيمان الحق، ورد على اليهود فيما نسبوه إليه، ورد على النصارى فيما غَلْوا فيه‏.‏

والقول في معنى الاتّباع تقدم، وكذلك القول في نحو ‏{‏لعلكم تهتدون‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

‏{‏ومن قوم موسى‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده من حُليهم عِجلاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ الآية، فهذا تخصيص لظاهر العموم الذي في قوله‏:‏ ‏{‏واتخذ قوم موسى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 148‏]‏ قصد به الاحتراس لئلا يتوهم أن ذلك قد عمله قوم موسى كلُّهُم، وللتنبيه على دفع هذا التوهم، قُدّم ‏{‏ومن قوم موسى‏}‏ على متعلقه‏.‏

وقوم موسى هم أتباع دينه من قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فمن بقي متمسكاً بدين موسى، بعد بلوغ دعوة الإسلام إليه، فليس من قوم موسى، ولكن يقال هو من بني إسرائيل أو من اليهود، لأن الإضافة في ‏{‏قوم موسى‏}‏ تؤذن بأنهم متبعو دينه الذي من جملة أصوله ترقب مجيء الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم

و ‏{‏أمة‏}‏‏:‏ جماعة كثيرة متفقة في عمل يجمعها، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أمة واحدة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏213‏)‏، والمراد أن منهم في كل زمان قبل الإسلام‏.‏

و ‏{‏يَهدون بالحق‏}‏ أي يهدون الناس من بني إسرائيل أو من غيرهم ببث فضائل الدين الإلهي، وهو الذي سماه الله بالحق ويعدلون أي يحكمون حكماً لا جَور فيه‏.‏

وتقديم المجرور في قوله‏:‏ ‏{‏وبه يعدلون‏}‏ للاهتمام به ولرعاية الفاصلة، إذ لا مقتضي لإرادة القصر، بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏يهدون بالحق‏}‏ حيث لم يقدم المجرور، والمعنى‏:‏ إنهم يحكمون بالعدل على بصيرة وعِلم، وليس بمجرد مصادفة الحق عن جهل، فإن القاضي الجاهل إذا قضى بغير علم كان أحدَ القاضيين اللذين في النار، ولو صادف الحق، لأنه بجهله قد استخف بحقوق الناس ولا تنفعه مصادفة الحق؛ لأن تلك المصادفة لا عمل له فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏وقطعناهم اثنتى عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا‏}‏‏.‏

عطف على قوله ‏{‏ومن قوم موسى أمة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 159‏]‏ إلخ، فإن ذلك التقطيع وقع في الأمة الذين يهدون بالحق‏.‏

والتقطيع شدة في القطع وهو التفريق، والمراد به التقسيم، وليس المراد بهذا الخبر الذم، ولا بالتقطيع العقاب، لأن ذلك التقطيع منة من الله، وهو من محاسن سياسة الشريعة الموسوية، ومن مقدمات نظام الجماعة كما فصله السفر الرابع، وهو سفر عدد بني إسرائيل وتقسيمهم، وهو نظير ما فعل عمر بن الخطاب من تدوين الديوان، وهم كانوا منتسبين إلى أسباط إسحاق، ولكنهم لم يكونوا مقسمين عشائِر لمّا كانوا في مصر، ولمّا اجتازوا البحر، فكان التقسيم بعد اجتيازهم البحر الأحمر، وقبلَ انفجار العيون، وهو ظاهر القرآن في سورة البقرة وفي هذه السورة لقوله فيهما‏:‏ ‏{‏قد علم كل أناس مشربهم‏}‏ وذكرهُ هنا الاستسْقاء عقب الانقسام إلى اثنتي عشرة أمة، وذلك ضروري أن يكون قبل الاستسْقاء، لأنه لو وقع السقي قبل التقسيم لحصل من التزاحم على الماء ما يفضي إلى الضر بالقوم، وظاهر التوراة أنهم لما مروا بِحُوريب، وجاء شعيب للقاء موسى‏:‏ إن شعيباً أشار على موسى أن يقيم لهم رؤساء ألوف، ورؤساء مِئات، ورؤساء خماسين، ورؤساء عشرات، حسب الإصحاح 18 من الخروج، وذلك يقتضي أن الأمة كانت منتسبة قبائِل من قبلُ، ليسهل وضع الرؤساء على الأعداد، ووقع في السنة الثانية من خروجهم أن الله أمر موسى أن يحصي جميع بني إسرائيل، وأن مِوسى وهارون جمعا جميع بني إسرائيل فانتسبوا إلى عشائرهم وبيوت آبائِهم، كما في الإصحاح الأول من سفر العدد، وتقدم ذكر الأسباط عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏136‏)‏‏.‏

وجيء باسم العدد بصيغه التأنيث في قوله‏:‏ اثنتي عشرة‏}‏ لأن السبط أطلق هنا على الأمة فحذف تمييز العدد لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏أمماً‏}‏ عليه‏.‏

و ‏{‏أسباطاً‏}‏ حال من الضمير المنصوب في ‏{‏وقطّعناهم‏}‏ ولا يجوز كونه تمييزاً لأن تمييز اثنتي عشرة ونحوه لا يكون إلاّ مفرداً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أمماً‏}‏ بدل من أسباط أو من أثنتي عشرة، وعدل عن جعل أحد الحالين تمييزاً في الكلام إيجازاً وتنبيهاً على قصد المنة بكونهم أمماً من آباء أخوة‏.‏ وأن كل سبط من أولئك قد صار أمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثّرَكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏ مع ما يذكر به لفظ أسباط من تفضيلهم، لأن الأسباط أسباط إسحاق بن إبراهيم عليه السلام‏.‏

هذا مظهر من مظاهر حكمة تقسيمهم إلى اثني عشر سبطاً ولم يعطف هذا الخبر بالفاء لإفادة أنه منة مستقلة‏.‏

وتفسير هذه الآية مضى في مشابهتها عند قوله‏:‏ ‏{‏وإذ استسقى موسى لقومه‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏60‏)‏‏.‏

وانبجست‏}‏ مطاوع بجس إذا شق، والتعقيب الذي دلت عليه الفاء تعقيب مجازي تشبيهاً لقصر المهلة بالتعقيب ونظايره كثيرة في القرآن، ومنه ما وقع في خبر الشّرب إلى أم زرع قولها‏:‏ «فلقي امرأة معها ولدان كالفهديْن يلعبان من تحت خصرها برُمّانتين فطلّقني ونكحها» إذ التقدير فأعجبته فطلقني ونكحها‏.‏

ضمائر الغيبة راجعة إلى قوم موسى، وهذه الآية نظير ما في سورة البقرة سوى اختلاف بضميري الغيبة هنا وضميري الخطاب هناك لأن ما هنالك قصد به التوبيخ‏.‏

وقد أسند فعل ‏(‏قيل‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161‏]‏ إلى المجهول وأسند في سورة البقرة ‏(‏58‏)‏ إلى ضمير الجلالة ‏{‏وإذ قلنا‏}‏ لظهور أن هذا القول لا يصدر إلاّ من الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 162‏]‏

‏{‏وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏161‏)‏ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

هذه الآية أيضاً نظير ما في سورة البقرة إلاّ أنه عبر في هذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏اسكنوا‏}‏ وفي سورة البقرة ‏(‏58‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا‏}‏ لأن القولين قيلا لهم، أي قيل لهم‏:‏ ادخلوا واسكنوها ففُرّق ذلك على القصتين على عادة القرآن في تغيير أسلوب القصص استجداداً لنشاط السامع‏.‏

وكذلك اختلاف التعبير في قوله هنا‏:‏ ‏{‏وكلوا‏}‏ وقوله في سورة البقرة ‏(‏58‏)‏ ‏{‏فكلوا‏}‏ فإنه قد قيل لهم بما يرادف فاء التعقيب، كما جاء في سورة البقرة، لأن التعقيب معنى زائِد على مطلق الجمع الذي تفيده واو العطف، واقتصر هنا على حكاية أنه قيل لهم، وكانت آية البقرة أولى بحكاية ما دلت عليه فاء التعقيب، لأن آية البقرة سيقت مساق التوبيخ فناسبها ما هو أدل على المنة، وهو تعجيل الانتفاع بخيرات القرية، وآيات الأعراف سيقت لمجرد العبرة بقصة بني إسرائيل‏.‏

ولأجل هذا الاختلاف مُيزت آية البقرة بإعادة الموصول وصلته في قوله‏:‏ ‏{‏فأنزلنا على الذين ظلموا رجزاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 59‏]‏ وعوض عنه هنا بضمير الذين ظلموا، لأن القصد في آية البقرة بيان سبب إنزال العذاب عليهم مرتين أشير إلى أولاهما بما يومئ إليه الموصول من علة الحكم، وإلى الثانية بحرف السببية، واقتصر هنا على الثاني‏.‏

وقد وقع في سورة البقرة ‏(‏59‏)‏ لفظ ‏{‏فأنزلنا‏}‏ ووقع هنا لفظ ‏{‏فأرسلنا‏}‏ ولما قيد كلاهما بقوله‏:‏ ‏{‏من السماء‏}‏ كان مفادهما واحداً، فالاختلاف لمجرد التفنن بين القصتين‏.‏

وعبر هنا ‏{‏بما كانوا يظلمون‏}‏ وفي البقرة ‏(‏59‏)‏ ‏{‏بما كانوا يفسقون‏}‏ لأنه لما اقتضى الحال في القصتين تأكيدَ وصفهم بالظلم وأدي ذلك في البقرة ‏(‏59‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏فأنزلنا على الذين ظلموا‏}‏ استثقلت إعادة لفظ الظلم هنالك ثالثة، فعُدل عنه إلى ما يفيد مفاده، وهو الفسق، وهو أيضاً أعم، فهو أنسب بتذييل التوبيخ، وجيء هنا بلفظ يظلمون‏}‏ لئلا يفوت تسجيل الظلم عليهم مرة ثالثة، فكان تذييل آية البقرة أنسب بالتغليط في ذمهم، لأن مقام التوبيخ يقتضيه‏.‏

ووقع في هذه الآية ‏{‏فبدل الذين ظلموا منهم‏}‏ ولم يقع لفظ ‏{‏منهم‏}‏ في سورة البقرة، ووجه زيادتها هنا التصريحُ بأن تبديل القول لم يصدر من جميعهم، وأجمل ذلك في سورة البقرة لأن آية البقرة لما سيقت مساق التوبيخ ناسب إرهابهم بما يوهم أن الذين فعلوا ذلك هم جميع القوم، لأن تبعات بعض القبيلة تحمل على جماعتها‏.‏

وقدم في سورة البقرة ‏(‏58‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏وادخلوا الباب سجداً‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏وقولوا حطة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 58‏]‏ وعُكس هنا وهو اختلاف في الإخبار لمجرد التفنن، فإن كلا القولين واقع قُدّم أو أُخّر‏.‏

وذكر في البقرة ‏(‏58‏)‏‏:‏ ‏{‏وكلوا منها حيث شئتم رَغَداً‏}‏ ولم يذكر وصف رغداً هنا، وإنما حكي في سورة البقرة، لأن زيادة المنة أدخل في تقوية التوبيخ‏.‏

وجملة سنزيد المحسنين‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن قوله‏:‏ ‏{‏تُغفرْ لكم‏}‏ في مقام الامتنان بإعطاء نعم كثيرة مما يثير سؤال سائِل يقول‏:‏ وهل الغفران هو قصارىَ جزائِهم‏؟‏ فأجيب بأن بعده زيادة الأجر على الإحسان، أي على الامتثال‏.‏

وفي نظير هذه الآية من سورة البقرة ‏(‏58‏)‏ ذكرت جملة ‏{‏وسنزيد المحسنين‏}‏ معطوفة بالواو على تقدير‏:‏ قلنا لهم ذلك وقلنا لهم سنزيد المحسنين، فالواو هنالك لحكاية الأقوال، فهي من الحكاية لا من المحكي أي قلنا وقلنا سنزيد‏.‏

وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب ‏{‏تُغفر‏}‏ بمثناة فوقية مبنياً للمجهول، و‏{‏خطيئاتُكم‏}‏ بصيغة جمع السلامة للمؤنث وقرأه ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف‏:‏ ‏{‏نَغْفر‏}‏ بالنون مبنياً للفاعل و‏{‏خطيئاتِكم‏}‏ بصيغة جمع المؤنث السالم أيضاً وقرأه أبو عمرو ‏{‏نغفر‏}‏ بالنون و‏{‏خطاياكم‏}‏ بصيغة جمع التكسير، مثل آية البقرة، وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏تُغفر‏}‏ بالفوقية وخطيئتكم بالإفراد‏.‏

والاختلاف بينها وبين آية البقرة في قراءة نافع ومن وافقه‏:‏ تفنن في حكاية القصة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

غُيّر أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هُنا‏:‏ فابتدئ ذِكرُ هذه القصة بطلب أن يسأل سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأناً غير شأن القصص الماضية، ولا أحسب ذلك إلاّ من أجل أن هذه القصة ليست مما كُتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم، ولكنها مما كان مروياً عن أحبارهم، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أْطلع نبيّه عليه الصلاة والسلام عليها، وهم كانوا يكتمونها، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للأمة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عَقب الموعظة أثراً قد تعيّر الأمة به، ولكن ذلك التعيير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعطة، فالأمة في خُوَيْصّتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلاّ بإصلاح الحال، وإن كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولتْ الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزاً عليها ومعرّة تُعير بها، وكذلك كان شَأن اليهود لما أضاعوا مُلكهم ووطنهم وجاوروا أمماً أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مَسَاوي تاريخهم، حتى أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم فعلّمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم، وما بقي معرّة لأخلافهم، وذلك تَحدّ لهم، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد‏.‏

فالسؤال هنا في معنى التقرير لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وَعد سوابق عصيانهم أي ليس عصيانهم إياك ببدع، فإن ذلك شنشنة قديمة فيهم، وليس سؤالَ الاستفادة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعلم بذلك من جانب ربه تعالى، وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان ‏{‏وأسألهم عن القرية‏}‏ وزان‏:‏ أعدَوْتُم في السَبْت، فإن السؤال في كلام العرب على نوعين أشهرهما أن يسأل السائِل عما لا يعلمه ليعلمه، والآخران يسأل على وجه التقرير حين يكون السائِل يعلم حصول المسؤول عنه، ويعلم المسؤول أن السائل عالم وأنه إنما سأله ليقرره‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏واسألهم‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وإذْ قيل لهم اسكنوا هذه القرية‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 161‏]‏ واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله‏:‏ ‏{‏وقَطّعنْاهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة إن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل‏.‏

وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت‏}‏ الآية من سورة البقرة ‏(‏65‏)‏‏.‏

وهذه القرية قيل‏:‏ ‏(‏أْيلة‏)‏ وهي المسماة اليوم ‏(‏العقبة‏)‏ وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طور سينا، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود عليه السلام، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرببِ منه، لأن الحضور يستلزم القرب، وكانت ‏(‏أيلة‏)‏ متصلة بخليج من البحر الأحمر وهو القلزم‏.‏

وقيل هي ‏(‏طبرية‏)‏ وكانت طبرية تدعى بحيرة طبرية، وقد قال المفسرون‏:‏ إن هذه القصة التي أشير إليها في هذه الآية كانت في مدة داود‏.‏

وأطلقت القرية على أهلها بقرينة قوله‏:‏ إذ يعْدُون‏}‏ أي أهلها‏.‏

والمراد السؤال عن اعتدائهم في السبت بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إذ يعدون في السبت‏}‏ الخ فقوله‏:‏ ‏{‏إذ يعدون في السبت‏}‏ بدل اشتمال من القرية وهو المقصود بالحكم‏.‏ فتقدير الكلام‏:‏ وأسألهم إذ يعدُو أهل القرية في السبت و‏{‏إذْ‏}‏ فيه اسم زمان للماضي، وليست ظرفاً‏.‏

والعدوان الظلم ومخالفة الحق، وهو مشتق من العدوْ وبسكون الدال وهو التجاوز‏.‏

والسبت علم لليوم الواقع بعد يوم الجمعة، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقُلنا لهم لا تَعدُوا في السبت‏}‏ في سورة النساء ‏(‏154‏)‏‏.‏

واختيار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم‏.‏

وتعدية فعل يعدون‏}‏ إلى ‏{‏في السبت‏}‏ مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت، نظراً إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت، ونظراً إلى أن ذكر وقت العدوان لا يتعلق به غرض البليغ ما لم يكن لذلك الوقت مزيد اختصاص بالفعل فيعلم أن الاعتداء كان مَنوطاً بحق خاص بيوم السبت، وذلك هو حق عدم العمل فيه، إذ ليس ليوم السبت حق في شريعة موسى سوى أنه يحرم العمل فيه، وهذا العمل هو الصيد كما تدل عليه بقية القصة‏.‏

وهدف ‏{‏في‏}‏ للظرفية، لأن العدوان وقع في شأن نقص حرمة السبت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إذ تأتيهم حيتانهم‏}‏ ظرف ل ‏{‏يعْدُون‏}‏ أي يَعْدون حين تأتيهم حيتانهم‏.‏

والحيتان جمع حوت، وهو السمكة، ويطلق الحوت على الجمع فهو مما استوى فيه المفرد والجمع مثل فُلْك، وأكثر ما يطلق الحوت على الواحد، والجمعُ حيتان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏شُرّعاً‏}‏ هو جمع شارع، صفة للحوت الذي هو المفرد، قال ابن عباس‏:‏ أي ظاهرة على الماء، يعني أنها قريبة من سطح البحر آمنة من أن تصاد، أي أن الله ألهمها ذلك لتكون آية لبني إسرائيل على أن احترام السبت من العمل فيه هو من أمر الله، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏شُرَعاً‏}‏ متتابعة مصطفة، أي فهو كناية عن كثرة ما يَرد منها يومَ السبت‏.‏

وأحسب أن ذلك وصف من شَرَعَتْ الإبل نحو الماء أي دخلتْ لتشرب، وهي إذا رعها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكمت وربما دخلت فيه، فمثلت هيئة الحيتان، في كثرتها في الماء بالنعم الشارعة إلى الماء وحسّن ذلك وجود الماء في الحالتين، وهذا أحسن تفسيراً‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم يَعْدون في السبت ولم يمتثلوا أمر الله بترك العمل فيه، ولا اتعظوا بآية إلهام الحوت أن يكون آمناً فيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يوم سبتهم‏}‏ يجوز أن يكون لفظ سبت مصدَر سبتَ إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏ويوم لا يسبتون‏}‏ فإنه مضارع سَبت، فيتطابق المثبت والمنفي فيكون المعنى‏:‏ إنهم إذا حفظوا حرمة السبت، فأمسكوا عن الصيد في يوم السبت، جاءت الحيتان يومئذٍ شُرعاً آمنة، وإذا بعثهم الطمع في ورفة الصيد فأعدُّوا له آلاته، وعزموا على الصيد لم تأتهم‏.‏

ويجوز أن يكون لفظ ‏{‏سبتهم‏}‏ بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف بهذا الاسم من أيام الأسبوع، وإضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بما أنهم يهود، تعريضاً بهم لاستحلالهم حرمة السبت فإن الاسم العلم قد يضاف بهذا القصد، كقول أحد الطائينَ‏:‏

عَلاَ زيدْنا يوم النّقا رأسَ زيدِكم *** بأبيض ماضي الشفرتين يَمانِ

وقول ربيعة بن ثابت الأسدي‏:‏

لشتان ما بين اليزيدين في النّدى *** يَزيدِ سُليْم والأغَرّ ابننِ حاتم

وعلى الوجهين يجوز في قوله‏:‏ ‏{‏ويوم لا يسبتون‏}‏ أن يكون المعنى والأيامَ التي لا يحرم العمل فيها، أي أيام الأسبوع، لا تأتي فيها الحيتان، وأن يكون المعنى وأيامَ السبوت التي استحلوها فلم يكفوا عن الصيد فيها يَنقطع فيها إتيان الحيتان، ولا يخفى أن لا يثار هذا الأسلوب في التعبير عن السبت خصوصية بلاغية، ترمي إلى إرادة كلا المعنيين‏.‏

فالمقصود من الآية الموعظة والعبرة وليست منة عليهم، وقرينته قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون‏}‏ أي نمتحن طاعتهم بتعريضهم لداعي العصيان وهو وجود المشتهى الممنوع‏.‏

وجملة ‏{‏كذلك نبلوهم‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لجواب سؤال من يقول‏:‏ ما فائدة هذه الآية مع علم الله بأنهم لا يَرعوون عن انتهاك حرمة السبت‏.‏

والإشارة إلى البلوى الدال عليها ‏{‏نبلوهم‏}‏ أي مثل هذا الابتلاء العظيم نبلوهم، وقد تقدم القول في نظيره من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أمة وسطاً‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏143‏)‏‏.‏

وأصل البلوى الاختبار، والبلوى إذا أسندت إلى الله تعالى كانت مجازاً عقلياً أي ليبلَو الناس تمسكهم بشرائِع دينهم‏.‏

والباء للسببية و‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي بفسقهم، أي توغلهم في العصيان أضراهم على الزيادة منه، فإذا عرض لهم داعِيهِ خفُّوا إليه ولم يرقبوا أمر الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 166‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

جملة‏:‏ ‏{‏وإذ قالت أمة منهم‏}‏ عطف على قوله‏:‏ ‏{‏إذ يعدون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ والتقدير‏:‏ واسألَ بني إسرائيل إذ قالت أمة منهم، فإذْ فيه اسم زمان للماضي وليست ظرفاً، ولها حكم ‏{‏إذْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ أختها، المعطوفة هي عليها، فالتقدير‏:‏ واسألهم عن وقت قالت أمة، أي عن زمنَ قول أمة منهم، والضمير المجرور بمن عائِد إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏أسألهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ وليس عائداً إلى القرية، لأن المقصود توبيخ بني إسرائيل كلهم، فإن كان هذا القول حصل في تلك القرية كما ذكره المفسرون كان غير منظور إلى حصوله في تلك القرية، بل منظوراً إليه بأنه مظهر آخر من مظاهر عصيانهم وعتوهم وقلة جدوى الموعظة فيهم، وأن ذلك شأن معلوم منهم عند علمائهم وصلحائهم، ولذلك لما عطفت هذه القصة أعيد معها لفظ اسم الزمان فقيل‏:‏ ‏{‏وإذْ قالت أمة‏}‏ ولم يقل‏:‏ وقالت أمة‏.‏

والأمة الجماعة من الناس المشتركة في هذا القول، قال المفسرون‏:‏ إن أمة من بني إسرائيل كانت دائبة على القيام بالموعظة والنهى عن المنكر، وأمة كانت قامت بذلك ثم أيست من إتعاظ الموعوظين وأيقنت أن قد حقت على الموعوظين المصمين آذانهم كلمة العذاب، وأمة كانت سادرة في غلوائها، لا ترعوي عن ضلالتها، ولا ترقب الله في أعمالها‏.‏

وقد أجملت الآية ما كان من الأمة القائلة إيجازاً في الكلام، اعتماداً على القرينة لأن قولهم‏:‏ ‏{‏الله مهلكهم‏}‏ يدل على أنهم كانوا منكرين على الموعوظين، وإنهم ما علموا أن الله مهلكهم إلاّ بعدَ أن مارسوا أمرهم، وسبروا غورهم، ورأوا أنهم لا تغني معهم العظات، ولا يكون ذلك إلاّ بعد التقدم لهم بالموعظة، وبقرينة قوله بعد ذلك ‏{‏أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس‏}‏ إذ جعل الناس فريقين، فعلمنا أن القائلين من الفريق الناجي، لأنهم ليسوا بظالمين، وعلمنا أنهم ينهون عن السوء‏.‏

وقد تقدم ذكر الوعظ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم وعظْهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏63‏)‏ وعند قوله آنفاً ‏{‏موعظة وتفصيلاً لكل شيء‏}‏ في هذه السورة ‏(‏145‏)‏‏.‏

واللام في ‏{‏لمَ تعظون‏}‏ للتعليم، فالمستفهم عنه من نوع العلل، والاستفهام إنكاري في معنى النفي، فيدل على انتفاء جميع العلل التي من شأنها أن يوعظَ لتحصيلها، وذلك يفضي إلى اليأس من حصول إتعاظهم، والمخاطب ب ‏{‏تعظون‏}‏ أمة أخرى‏.‏

ووصف القوم بأن الله مهلكهم‏:‏ مبني على أنهم تحققتْ فيهم الحال التي أخبر الله بأنه يهلك أو يعذب من تحققتْ فيه، وقد أيقن القائلون بأنها قد تحققت فيهم، وأيقن المقول لهم بذلك حتى جاز أن يصفهم القائلون للمخاطبين بهذا الوصف الكاشف لهم بأنهم موصوفون بالمصير إلى أحد الوعيدين‏.‏

واسما الفاعل في قوله‏:‏ ‏{‏مهلكهم أو معذبهم‏}‏ مستعملان في معنى الاستقبال بقرينة المقام، وبقرينة التردد بين الإهلاك والعذاب، فإنها تؤذن بأن أحد الأمرين غير معين الحصول، لأنه مستقبل ولكن لا يخلو حالهم عن أحدهما‏.‏

وفصلت جملة ‏{‏قالوا‏}‏ لوقوعها في سياق المحاورة، كما تقدم غير مرة أي قال المخاطبون بِ ‏{‏لمَ تعظون قوماً‏}‏ الخ‏.‏

والمعذرة بفتح الميم وكسر الذال مصدر ميمي لفعل ‏(‏اعتذر‏)‏ على غير قياس، ومعنى اعتذر أظهر العذر بضم العين وسكون الذال والعذر السبب الذي تبطل به المؤاخذة بذنب أو تقصير، فهو بمنزلة الحجة التي يبديها المؤاخَذ بذنب؛ ليظهر أنه بريء مما نسب إليه، أو متأول فيه، ويقال‏:‏ عذَره إذا قبل عذره وتحقق براءته، ويعدّى فعل الاعتذار بإلى لما فيه من معنى الإنهاء والإبلاغ‏.‏

وارتفع ‏{‏معذرة‏}‏ على أنه خبر لمبتدإ محذوف دل عليه قول السائلين ‏{‏لم تعظون‏}‏ والتقديرُ موعظتنا معذرة منا إلى الله‏.‏

وبالرفع قرأه الجمهور، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على المفعول لأجله أي وعظناهم لأجل المعذرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولعلهم يتقون‏}‏ علة ثانية للاستمرار على الموعظة أي رجاء لتأثير الموعظة فيهم بتكرارها‏.‏

فالمعنى‏:‏ أن صلحاء القوم كانوا فريقين‏.‏ فريق منهم أيِس من نجاح الموعظة وتحقق حلول الوعيد بالقوم، لتوغلهم في المعاصي، وفريق لم ينقطع رجاؤُهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار، فأنكر الفريقُ الأول على الفريق الثاني استمرارهم على كلفة الموعظة‏.‏ واعتذر الفريق الثاني بقولهم‏:‏ ‏{‏معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون‏}‏ فالفريق الأول أخذوا بالطرف الراجح الموجب للظن‏.‏ والفريق الثاني أخذوا بالطرف المرجوح جمعاً بينه وبين الراجح لقصد الاحتياط، ليكون لهم عذراً عند الله إن سألهم لماذا أقلعتم عن الموعظة ولما عسى أن يحصل من تقوى الموعوظين بزيادة الموعظة، فاستعمال حرف الرجاء في موقعه، لأن الرجاء يقال على جنسه بالتشكيك فمنه قوي ومنه ضعيف‏.‏

وضمير ‏{‏نسوا‏}‏ عائد إلى ‏{‏قوماً‏}‏ والنسيان مستعمل في الإعراض المفضي إلى النسيان كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما نسوا ما ذُكروا به‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏44‏)‏‏.‏

والذين ينهون عن السوء‏}‏ هم الفريقان المذكوران في قوله آنفاً ‏{‏وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً‏}‏ إلى قوله ‏{‏ولعلهم يتقون‏}‏، و‏{‏الذين ظلموا‏}‏ هم القوم المذكورون في قوله‏:‏ ‏{‏قوماً الله مُهلكهم‏}‏ إلخ‏.‏

والظلم هنا بمعنى العصيان، وهو ظلم النفس، حق الله تعالى في عدم الامتثال لأمره‏.‏

و ‏{‏بِيسٍ‏}‏ قرأه نافع وأبو جعفر بكسر الباء الموحدة مشبعة بياء تحتية ساكنة وبتنوين السين على أن أصله بئْس بسكون الهمزة فخففت الهمزة ياء مثل قولهم‏:‏ ذِيب في ذِئْب‏.‏

وقرأه ابن عامر ‏{‏بئْس‏}‏ بالهمزة الساكنة وإبقاء التنوين على أن أصله بَئيس‏.‏

وقرأه الجمهور ‏{‏بَئيس‏}‏ بفتح الموحدة وهمزة مكسورة بعدها تحتية ساكنة وتنوين السين على أنه مثالُ مبالغة من فعل بَؤُس بفتح الموحدة وضم الهمزة إذا أصابه البؤس، وهو الشدة من الضر‏.‏

أو على أنه مصدر مثل عَذير ونَكير‏.‏

وقرأه أبو بكر عن عاصم ‏{‏بَيْئسَ‏}‏ بوزنَ صَيْقل، على أنه اسم للموصوف بفعل البؤس مبالغة، والمعنى، على جميع القراءات‏:‏ أنه عذاب شديد الضر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بما كانوا يفسقون‏}‏ تقدم القول في نظيره قريباً‏.‏

وقد أجمل هذا العذاب هنا، فقيل هو عذاب غير المسخ المذكور بعده، وهو عذاب أصيب به الذين نَسوا ما ذُكروا به، فيكون المسخ عذاباً ثانياً أصيب به فريق شاهدوا العذاب الذي حل بإخوانهم، وهو عذاب أشد، وقع بعد العذاب البيس، أي أن الله أعذر إليهم فابتدأهم بعذاب الشدة، فلما لم ينتهوا وعتوا، سلّط عليهم عذاب المسخ‏.‏

وقيل‏:‏ العذاب البِئس هو المسخ، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏فلما عتوا عما نهوا عنه‏}‏ بياناً»جمال العذاب البئس، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏فلما عتوا‏}‏ بمنزلة التأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏فلما نسوا‏}‏ صيغ بهذا الأسلوب لتهويل النسيان والعتو، ويكون المعنى‏:‏ أن النسيان، وهو الإعراض، وقع مقارناً للعتو‏.‏

و ‏{‏ما ذكّروا به‏}‏ و‏{‏ما نُهوا عنه‏}‏ ما صْدَقُهما شيء واحد، فكان مقتضى الظاهر أن يقال‏:‏ فلما نسوا وَعتوا عما نهوا عنه وذُكروا به قلنا لهم الخ، فعدل عن مقتضى الظاهر إلى هذا الأسلوب من الإطناب لتهويل أمر العذاب، وتكثير أشكاله، ومقام التهويل من مقتضيات الأطناب، وهذا كإعادة التشبيه في قول لبيد‏:‏

فتنازعا سبطاً يطير ظلاله *** كدخان مُشعَلة يشبّ ضرامها

مشمولةٍ غُلِثت بنابت عَرفج *** كدُخان نار ساطع أسنامها

ولكن أسلوب الآية أبلغ وأوفر فائدة، وأبعد عن التكرير اللفظي، فما في بيت لبيد كلامٌ بليغ، وما في الآية كلام معجز‏.‏

و ‏(‏العتو‏)‏ تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعقروا الناقة وعَتوا عن أمر ربهم‏}‏ في هذه السورة ‏(‏77‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏ تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏65‏)‏، ولأجل التشابه بين الآيتين، وذكر العدْوِ في السبت فيهما، وذكرِه هنا في الإخبار عن القرية، جزم المفسرون بأن الذين نسوا مَا ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه هم أهل هذه القرية، وبأن الأمة القائلة ‏{‏لم تعظون قوماً‏}‏ هي أمة من هذه القرية فجزموا بأن القصة واحدة، وهذا وإن كان لا ينبو عنه المقام، كما أنه لا يمنعُ تشابه فريقين في العذاب، فقد بينتُ أن ذلك لا ينافي جعل القصة في معنى قصتين من جهة الاعتبار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏167‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏167‏)‏‏}‏

عطف على جملة‏:‏ ‏{‏واسألهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ بتقدير اذكر، وضمير ‏{‏عليهم‏}‏ عائد إلى اليهود المتقدم ذكرهم بالضمير الراجع إليهم بدلالة المقام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسألهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ كما تقدم بيان ذلك كله مسستوفى عند قوله‏:‏ ‏{‏واسألهم عن القرية‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 163‏]‏ فالمتحدث عنهم بهذه الآية لا علاقة لهم بأهل القرية الذين عَدَوْا في السبت‏.‏

و ‏{‏تأذَّنَ‏}‏ على اختلاف إطلاقاته، ومما فيه هنا مشتق من الإذن وهو العلم، يقال‏:‏ أذِنَ أي علم، وأصله العلم بالخبر، لأن مادة هذا الفعل وتصاريفه جائية من الأُذْن، اسم الجارحة التي هي آلة السمع، فهذه التصاريف مشتقة من الجامد نحو استحجر الطين أي صار حجراً، واستنسر البُغاث أي صار نَسراً، فتأذن‏:‏ بزنة تَفعَل الدالة على مطاوعة فَعل، والمطاوعة مستعملة في معنى قوة حصول الفعل، فقيل‏:‏ هو هنا بمعنى أفْعلَ كما يقال‏:‏ تَوعد بمعنى أوْعد فمعنى ‏{‏تأذن ربك‏}‏ أعلم وأخبر ليبعثن، فيكون فعل أعلم معلقاً عن العمل بلام القسم، وإلى هذا مَال الطبري، قال ابن عطية‏:‏ وهذا قلق من جهة التصريف إذ نسبة تأذن إلى الفاعل غير نسبة أعلم، ويتبين ذلك من التعدي وغيره، وعن مجاهد‏:‏ ‏{‏تأذن‏}‏ تألى قال في «الكشاف» معناه عزم ربّك، لأن العازم على الأمر يُحدث نفسه به» أراد أن إشرابه معنى القسم ناشئ عن مجاز فأطلق التأذن على العزم، لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه، فهو يؤذنها بفعله فتعزمُ نفسه، ثم أجرى مجرى فعل القسم مثل عَلم الله، وشهد الله‏.‏ ولذلك أجيب بما يجاب به القسم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ «وقادهم إلى هذا القول دخول اللام في الجواب، وأما اللفظة فبعيدة عن هذا» وعن ابن عباس ‏{‏تأذن ربك‏}‏ قال ربك يعني أن الله أعلن ذلك على لسان رسله‏.‏

وحاصل المعنى‏:‏ أن الله أعلمهم بذلك وتوعدهم به، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم‏}‏ في سورة إبراهيم ‏(‏7‏)‏‏.‏

ومعنى البعث الإرسال وهو هنا مجاز في التقييض والإلهام، وهو يؤذن بأن ذلك في أوقات مختلفة وليس ذلك مستمراً يوماً فيوماً، ولذلك اختبر فعل ليبعثن‏}‏ دُون نحو ليلزمنهم، وضمن معنى التسليط فعدي بعلى كقوله‏:‏ ‏{‏بعثنا عليكم عباداً لنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 5‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 133‏]‏‏.‏

و ‏{‏إلى يوم القيامة‏}‏ غاية لما في القسم من معنى الاستقبال، وهي غاية مقصود منها جعل أزمنة المستقبل كله ظرفاً للبعث، لإخراج ما بعد الغاية‏.‏ وهذا الاستغراق لأزمنة البعث أي أن الله يسلط عليهم ذلك في خلال المستقبل كله، والبعث مطلق لا عام‏.‏

و ‏{‏يسومهم‏}‏ يفرض عليهم، وحقيقة السوم أنه تقدير العوض الذي يستْبدل به الشيءُ، واستعمل مجازاً في المعاملة اللازمة بتشبيهها بالسوم المقَدر للشيء، وقد تقدم في سورة البقرة ‏(‏49‏)‏ ‏{‏وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب‏}‏

وتقدم في هذه السورة نظيره، فالمعنى يجعل سوء العذاب كالقيمة لهم فهو حظهم‏.‏

وسوء العذاب أشده، لأن العذاب كله سوء فسوءهُ الأشد فيه‏.‏

والآية تشير إلى وعيد الله إياهم بأن يسلط عليهم عدوهم كلما نقضوا ميثاق الله تعالى، وقد تكرر هذا الوعيد من عهد موسى عليه السلام إلى هلُم جرّا، كما في سفر التثنية في الثامن والعشرين ففيه إن لم تحرص لتعمل بجميع كلمات هذا الناموس‏.‏‏.‏‏.‏ ويبددُك الله في جميع الشعوب وفي تلك الأمم لا تطمئن وترتعب ليلاً ونهاراً ولا تأمن على حياتك وفي سفر يوشع الإصحاح 23 لتحفظوا وتعملوا كل المكتوب في سفر شريعة موسى ولكن إذا رجعتم ولصفتم ببقية هؤلاء الشعوب اعلموا يقيناً أن الله يجعلهم لكم سَوطاً على جُنوبكم وشوكاً في أعينكم حتى تبيدوا حينما تتعدون عهد الرب إلهكم‏.‏

وأعظم هذه الوصايا هي العهد باتباع الرسول الذي يُرسل إليهم، كما تقدم، ولذلك كان قوله‏:‏ ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب‏}‏ معناه ما داموا على إعراضهم وعنادهم وكونهم أتباع ملة اليهودية مع عدم الوفاء بها، فإذا أسلموا وآمنوا بالرسول النبي الأمي فقد خرجوا عن موجب ذلك التأذنُ ودخلوا فيما وعد الله به المسلمين‏.‏

ولذلك ذيل هذا بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك لسريع العقاب‏}‏ أي لهم، والسرعة تقتضي التحقق، أي أن عقابه واقع وغيرُ متأخر‏.‏ لأن التأخر تقليل في التحقق إذ التأخر استمرار العدم مدة مّا‏.‏

وأول من سُلط عليهم «بُخْتنصَّر» ملك ‏(‏بابل‏)‏‏.‏ ثم توالت عليهم المصائب فكان أعظمها خراب ‏(‏أرشليم‏)‏ في زمن ‏(‏إدريانوس‏)‏ انبراطور ‏(‏رومة‏)‏ ولم تزل المصائب تنتابهم ويُنفس عليهم في فترات معروفة في التاريخ‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وإنه لغفور رحيم‏}‏ فهو وعد بالإنجاء من ذلك إذا تابوا واتبعوا الإسلام، أي لغفور لمن تاب ورجع إلى الحق، وفيه إيماء إلى أن الله قد ينفس عليهم في فترات من الزمن لأن رحمة الله سبقت غضبه، وقد ألمّ بمعنى هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتُفسدُن في الأرض مرتين ولتعلن عُلواً كبيراً فإذا جاء وعدُ أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً ثم رددنا لكم الكّرة عليهم وأمددناكم بأمواللٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءموا وجوهكم وليدْخلوا المسجدَ كما دخلوه أول مرةٍ وليتبروا ما علوا تتبيراً عسى ربكم أن يرحمكم وإن عُدتم عُدنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 4 8‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏168‏]‏

‏{‏وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏168‏)‏‏}‏

عطف قصة على قصة، وهو عود إلى قصص الإخبار عن أحوالهم، فيجوز أن يكون الكلام إشارة إلى تفرقهم بعد الاجتماع، والتقطيع التفريق، فيكون محموداً مثل ‏{‏وقطّعناهم اثنتي عشرة أسباطاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 160‏]‏، ويكون مذموماً، فالتعويل على القرينة لا على لفظ التقطيع‏.‏

فالمراد من الأرض الجنس أي في أقطار الأرض‏.‏

و ‏{‏أمماً‏}‏ جمع أمّة بمعنى الجماعة، فيجوز أن يكون المراد هنا تقطيعاً مذموماً أي تفريقاً بعد اجتماع أمتهم فيكون إشارة إلى أسر بني إسرائيل عندما غزا مملكة إسرائيل ‏(‏شلمناصرُ‏)‏ مَلك بابل‏.‏ ونقلهم إلى جبال انشور وأرض بابل سنة 721 قبل الميلاد‏.‏ ثم أسر ‏(‏بُخْتنصّر‏)‏ مملكة يهوذا وملكها سنة 578 قبل الميلاد، ونقل اليهود من ‏(‏أرشليم‏)‏ ولم يبق إلاّ الفقراء والعجّز‏.‏ ثم عادوا إلى أرشليم سنة 530، وَبَنوْا البيت المقدس إلى أن أجلاهم ‏(‏طيطوس‏)‏ الروماني، وخرّب بيت المقدس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد، فلم تجتمع أمتهم بعد ذلك فتمزقوا أيدي سبأ‏.‏

ووصف الأمم بأنهم ‏{‏منهم الصالحون‏}‏ إيذان بأن التفريق شمل المذنبين وغيرهم، وأن الله جعل للصالحين منزلة إكرام عند الأمم التي حلّوا بينها، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيّئات‏}‏‏.‏

وشمل قوله‏:‏ ‏{‏ومنهم دون ذلك‏}‏ كل من لم يكن صالحاً على اختلاف مراتب فقدان الصلاح منهم‏.‏

و ‏{‏الصالحون‏}‏ هم المتمسكون بشريعة موسى والمصدقون للأنبياء المبعوثين من بعده والمؤمنون بعيسى بعد بعثته، وأن بني إسرائيل كانوا بعد بعثة عيسى غير صالحين إلاّ قليلاً منهم‏:‏ الذين آمنوا به، وزادوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم إيمانهم به، بُعداً عن الصلاح إلاّ نفراً قليلاً منهم مثل عبد لله بن سَلام، ومخيريق‏.‏

وانتصب ‏{‏دونَ ذلك‏}‏ على الظرفية وصفاً لمحذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏منهم‏}‏ أي ومنهم فريق دون ذلك، ويجوز أن تكون ‏(‏مِن‏)‏ بمعنى بعض اسماً عند من يجوّز ذلك، فهي مبتدأ، و‏{‏دون‏}‏ خبر عنه‏.‏

ويحتمل أن تكون الآية تشير إلى تفريقهم في الأرض في مدة ملوك بابل، وإنهم كانوا في مدة إقامتهم ببابل ‏{‏منهم الصالحون‏}‏ مثل ‏(‏دانيال‏)‏ وغيره، ومنهم دون ذلك، لأن التقسيم بمِنهم مشعر بوفرة كلا الفريقين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وبلوناهم بالحسنات والسيئات‏}‏ أي أظهرنا مختلف حال بني إسرائيل في الصبر والشكر، أو في الجزع والكفر، بسبب الحسنات والسيئات، فهي جمع حسنة وسيئة بمعنى التي تَحسن والتي تَسوء، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئةٌ يطيّروا بموسى ومن معه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏ وعلى هذا يكون الحسنات والسيئات تفصيلاً للبلوى، فالحسنات والسيئات من فعل الله تعالى، أي بالتي تحسن لفريق الصالحين وبالتي تسوء فريق غيرهم، توزيعاً لحال الضمير المنصوب في قوله‏:‏ ‏{‏بلوناهم‏}‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ استئناف بياني أي رجاء أن يتوبوا أي حين يذكرون مدة الحسنات والسيئات، أو حين يرون حسن حال الصالحين وسوء حال من هم دون ذلك، على حسب الوجهين المتقدمين‏.‏

والرجوع هنا الرجوع عن نقض العهد وعن العصيان، وهو معنى التوبة‏.‏

هذا كله جري على تأويل المفسرين الآية في معنى ‏{‏قَطّعناهم‏}‏‏.‏

ويجوز عندي أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏وقطعناهم في الأرض أمماً‏}‏، عوداً إلى أخبار المنن عليهم، فيكون كالبناء على قوله‏:‏ ‏{‏وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 160‏]‏، فيكون تقطيعاً محموداً، والمراد بالأرض‏:‏ أرض القدس الموعودة لهم أي لكثرناهم فعمروها جميعها، فيكون ذكر الأرض هنا دون آية ‏{‏وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 160‏]‏ للدلالة على أنهم عمروها كلها، ويكون قوله‏:‏ ‏{‏منهم الصالحون‏}‏ إنصافاً لهم بعد ذكر أحوال عدوان جماعاتهم وصم آذانهم عن الموعظة، وقوله‏:‏ ‏{‏وبلوناهم‏}‏ إشارة إلى أن الله عاملهم مرة بالرحمة ومرة بالجزاء على أعمال دهمائهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏169- 170‏]‏

‏{‏فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏169‏)‏ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏فخلف‏}‏ تفريع على قوله‏:‏ ‏{‏وقطّعناهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 168‏]‏ إن كان المراد تقطيعهم في بلاد أعدائهم وإخراجهم من مملكتهم، فتكون الآية مشيرة إلى عودة بني إسرائيل إلى بلادهم في عهد الملك ‏(‏كورش‏)‏ ملك الفرس في حدود سنة 530 قبل الميلاد، فإنه لما فتح بلاد أشور أذن لليهود الذين أسرهم ‏(‏بختنصر‏)‏ أن يرجعوا إلى بلادهم فرجعوا، وبنوا بيت المقدس بعد خرابه على يد ‏(‏نحميا‏)‏ و‏(‏عزرا‏)‏ كما تضمنه سفر نحميا وسفر عزرا، وكان من جملة ما أحيوه أنهم أتوا بسفر شريعة موسى الذي كتبه عزرا وقرأوه على الشعب في ‏(‏أورشليم‏)‏ فيكون المراد بالخلْف ما أوّله ذلك الفلّ من بني إسرائيل الذين رجعوا من أسر الآشوريين‏.‏ والمراد بإرث الكتاب إعادة مزاولتهم التوراة التي أخرجها إليهم ‏(‏عزرا‏)‏ المعروف عند أهل الإسلام باسم عُزَير، ويكون أخذهم عرض الأدنى أخذَ بعض الخلف لا جميعه، لأن صدر ذلك الخلف كانوا تائبين وفيهم أنبياء وصالحون‏.‏

وإن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمماً تكثيرَهم والامتنانَ عليهم، كان قوله‏:‏ ‏{‏فخلف من بعدهم خلف‏}‏ تفريعاً على جميع القصص المتقدمة التي هي قصص أسلافهم، فيكون المراد بالخلْف من نشأ من ذرية أولئك اليهود بعد زوال الأمة وتفرقها، منهم الذين كانوا عند ظهور الإسلام، وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة، وإلى هذا المعنى في ‏(‏الخلْف‏)‏ نحا المفسرون‏.‏

والخلْف بسكون اللام من يأتي بعد غيره سابِقِه في مكان أو عمل أو نسل، يُبينه المقام أو القرينة، ولا يغلب فيمن يخلف في أمر سيء، قاله النضر بن شُميل، خلافاً لكثير من أهل اللغة إذ قالوا‏:‏ الأكثر استعمال الخلْف بسكون اللام فيمن يخلف في الشر، وبفتح اللام فيمن يخلف في الخير، وقال البصريون‏:‏ يجوز التحريك والإسكان في الرديء، وأما الحسن فبالتحريك فقطْ‏.‏

وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي خَالِف، والخَلْف مأخوذ من الخَلَفْ ضد القدّام لأن من يجيء بعد قوم فكأنه جاء من ورائهم، وَلاَ حَد لآخر الخلف، بل يكون تحديده بالقرائن، فلا ينحصر في جيل ولا في قرن، بل قد يكون الخلف ممتداً، قال تعالى بعد ذكر الأنبياء ‏{‏فخلف من بعدهم خلفٌ أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏ فيشمل من خلفهم من ذرياتهم من العرب واليهود وغيرهم، فإنه ذكر من أسلافهم إدريسَ وهو جد نوح‏.‏

و ‏{‏ورثوا‏}‏ مجازٌ في القيام مقام الغير كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها‏}‏ في هذه السورة ‏(‏43‏)‏ وقوله فيها‏:‏ ‏{‏أو لم يهد الذين يرثون الأرض من بعد أهلها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 100‏]‏ فهو بمعنى الحلفية، والمعنى‏:‏ فخلف من بعدهم خلف في إرث الكتاب، وهذا يجري على كلا القولين في تخصيص الخلف، لأنه بيان للفعل لا لاسم الخلف‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏يأخذون عرض هذا الأدنى‏}‏ حال من ضمير ‏{‏ورثوا‏}‏، والمقصود هو ذم الخلف بأنهم يأخذون عرض الأدنى ويقولون سيغفر لنا، ومهد لذلك بأنهم ورثوا الكتاب ليدل على أنهم يفعلون ذلك عن علم لا عن جهل، وذلك أشد مذمة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأضله الله على علمٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏‏.‏

ومعنى الأخذ هنا الملابسة والاستعمال فهو مجاز أي‏:‏ يلابسونه، ويجوز كونه حقيقة كما سيأتي‏.‏

والعَرَض بفتح العين وفتح الراء الأمر الذي يزول ولا يدوم‏.‏ ويراد به المال، ويراد به أيضاً ما يعرض للمرء من الشهوات والمنافع‏.‏

والأدنى الأقرب من المكان، والمراد به هنا الدنيا، وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير هذا العرض الذي رغبوا فيه كالإشارة في قول قيس بن الخطيم‏:‏

متى يات هذَا الموت لا يُلَففِ حاجة *** لنفسيَ إلاّ قد قضيت قضاءَها

وقد قيل‏:‏ أَخذ عرض الدنيا أريد به ملابسة الذنوب، وبذلك فسر سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والطبري، فيشمل كل ذنب، ويكون الأخذ مستعملاً في المجاز وهو الملابسة، فيصدق بالتناول باليد وبغير ذلك، فهو من عموم المجاز، وقيل عرض الدنيا هو الرّشا وبه فسّرالسّدي، ومعظمُ المفسرين، فيكون الأخذ مستعملاً في حقيقته وهو التناول، وقد يترجح هذا التفسير بقوله ‏{‏وإن يأتهم عَرَض‏}‏ كما سيأتي‏.‏

والقول في‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ هو الكلام اللساني، يقولون لمن ينكر عليهم ملابسة الذنوب وتناول الشهوات، لأن ‏(‏ما‏)‏ بعد يقولون يناسبه الكلام اللفظي، ويجوز أن يكون الكلام النفساني، لأنه فرع عنه، أي قولهم في أنفسهم يعللونها به حين يجيش فيها وازع النهي، فهو بنمزلة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏ وذلك من غرورهم في الدين‏.‏

وبناء فعل «يُغفر» على صيغة المجهول لأن الفاعل معروف، وهو الله، إذ لا يصدر هذا الفعل إلاّ عنه، وللدلالة على أنهم يقولون ذلك على وجه العموم لا في خصوص الذنب الذي أنكر عليهم، أو الذي تلبَّسُوا به حين القول، ونائب الفاعل محذوف لعلمه من السياق، والتقدير‏:‏ سيُغفر لنا ذلك، أو ذُنوبنا، لأنهم يحسبون أن ذنوبهم كلها مغفورة ‏{‏وقالوا لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة‏}‏ كما تقدم في سورة البقرة ‏(‏80‏)‏، أي يغفر لنا بدون سبب المغفرة، وهو التوبة كما يعلم من السياق، وهو جزمهم بذلك عقب ذكر الذنب دون ذكر كفارة أو نحوها‏.‏

وقوله ‏{‏لنا‏}‏ لا يصلح للنيابة عن الفاعل، لأنه ليس في معنى المفعول، إذ فعل المغفرة يتعدّى لمفعول واحد، وأما المجرور بعده باللام فهو في معنى المفعول لأجله، يقال‏:‏ غفر الله لك ذنبك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 1‏]‏ فلو بُني شُرح للمجهول لما صح أن يجعل ‏{‏لك‏}‏ نائِباً عن الفاعل‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ويقولون سيُغفر لنا‏}‏ معطوفة على جملة، ‏{‏يأخذون‏}‏ لأن كِلا الخبرين يوجب الذم، واجتماعهما أشد في ذلك‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وَإنْ يأتهم عرض مثلُه يأخذوه‏}‏ معطوفة على التي قبلها، واستعير إتيان العرْض لبذله لهم إن كان المراد بالعرض المالَ، وقد يُراد به خطور شهوته في نفوسهم إن كان المراد بالعرض جميع الشهوات والملاذ المحرمة، واستعمال الإتيان في الذوات أنسب من استعماله في خطور الأعراض والأمور المعنوية، لقرب المشابهة في الأول دون الثاني‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم يعصون، ويزعمون أن سيّئاتهم مغفورة، ولا يُقلعون عن المعاصي‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب‏}‏ جواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏سيُغفر لنا‏}‏ إبطالاً لمضمونه، لأن قولهم‏:‏ ‏{‏سيغفر لنا‏}‏ يتضمن أنهم يزعمون أن الله وعدهم بالمغفرة على ذلك، والجملة معترضة في أثناء الإخبار عن الصالحين وغيرهم، والمقصود من هذه الجملة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم ليحجهم بها، فهم المقصود بالكلام‏.‏ كما تشهد به قراءة ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ بتاء الخطاب‏.‏

والاستفهام للتقرير المقصود منه التوبيخ، وهذا التقرير لا يسعهم إلاّ الاعتراف به، لأنه صريح كتابهم، في الإصحاح الرابع من السفر الخامس «لا تزيدوا على الكلام الذي أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب» ولا يجدون في الكتاب أنهم يغفر لهم، وإنما يجدون فيه التوبة كما في الإصحاح من سفر التثنية، وكما في سفر الملوك الأول في دعوة سليمان حين بنى الهيكل في الإصحاح الثامن، فقولهم‏:‏ ‏{‏سيغفر لنا‏}‏ تقوّل على الله بما لم يقله‏.‏

والميثاق‏:‏ العهد، وهو وصية موسى التي بلّغها إليهم عن الله تعالى في مواضع كثيرة، وإضافة الميثاق إلى الكتاب على معنى ‏(‏في‏)‏ أو على معنى اللام أي الميثاق المعروف به، والكتاب توراة موسى، وأن لا يقولوا هو مضمون ميثاق الكتاب فهو على حذف حرف الجر قبل ‏(‏أن‏)‏ الناصبة، والمعنى‏:‏ بأن لا يقولوا، أي بانتفاء قولهم على الله غيرَ الحق، ويجوز كونه عطف بيان من ميثاق، فلا يقدر حرف جر، والتقدير‏:‏ ميثاق الكتاب انتفاءُ قولهم على الله الخ‏.‏

وفعل ‏{‏درسوا‏}‏ عطف على ‏{‏يؤخذ‏}‏،‏.‏ لأن يؤخذ في معنى المضي، لأجل دخول لم عليه، والتقدير‏:‏ ألم يؤخذ ويدرسوا، لأن المقصود تقريرهم بأنهم درسوا الكتاب، لا الإخبار عنهم بذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض مهاداً والجبالَ أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سُباتاً‏}‏ إلى قوله ‏{‏وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً‏}‏ ‏[‏النبإ‏:‏ 6 14‏]‏ والتقدير‏:‏ ومخلقكم أزواجاً ونجعل نومكم سباتاً، إلى آخر الآية‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم قد أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلاّ الحق، وهم عالمون بذلك الميثاق، لأنهم درسوا ما في الكتاب فبمجموع الأمرين قامت عليهم الحجة‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏والدارُ الآخرة خير للذين يتقون‏}‏ حالية من ضمير ‏{‏يأخذون‏}‏ أي‏:‏ يأخذون ذلك ويكذبون على الله ويصرون على الذنب وينبذون ميثاق الكتاب على علم في حال أن الدار الآخرة خير مما تعجّلوه، وفي جعل الجملة في موضع الحال تعريض بأنهم يعلمون ذلك أيضاً فهم قد خيّروا عليه عرض الدنيا قصداً، وليس ذلك عن غفلة صادفتهم فحرمتهم من خير الآخرة، بل هم قد حَرموا أنفسهم، وقرينة ذلك قوله‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ المتفرع على قوله‏:‏ ‏{‏والدار الآخرة خير للذين يتقون‏}‏ وقد نُزلوا في تخيرهم عرض الدينا بمنزلة من لا عقول لهم، فخوطبوا ب ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ بالاستفهام الإنكاري، وقد قريء بتاء الخطاب، على الإلتفات من الغيبة إلى الخطاب‏.‏

ليكون أوقع في توجبه التوبيخ إليهم مواجهة، وهي قراءةَ نافع، وابن عامر، وابن ذكوان، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وأبي جعفر، وقرأ البقية بياء الغيبة، فيكون توبيخهم تعريضياً‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏والدارُ الآخرة خير للذين يتقون‏}‏ كناية عن كونهم خَسروا خير الآخرة بأخذهم عرض الدنيا بتلك الكيفية، لأن كون الدار الآخرة خيراً مما أخذوه يستلزم أن يكون ما أخذوه قد أفات عليهم خيرَ الآخرة‏.‏

وفي جعل الآخرة خير للمتقين كناية عن كون الذين أخذوا عَرض الدنيا بتلك الكيفية لم يكونوا من المتقين، لأن الكناية عن خسرانهم خيرَ الآخرة مع إثبات كون خير الآخرة للمتقين تستلزم أن الذين أضاعوا خير الآخرة ليسوا من المتقين، وهذه معان كثيرة جمعها قوله‏:‏ ‏{‏والدارُ الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون‏}‏ وهذا من حَد الإعجاز العجيب‏.‏

ووقعت جملة‏:‏ ‏{‏والذين يمسِكون بالكتاب‏}‏ إلى آخرها عقب التي قبلها‏:‏ لأن مضمونها مقابلَ حكمَ التي قبلها إذ حصل من التي قبلها أن هؤلاء الخلف الذين أخذوا عرض الأدني قد فرطوا في ميثاق الكتاب، ولم يكونوا من المتقين، فعُقب ذلك ببشارة من كانوا ضد أعمالهم، وهم الآخذون بميثاق الكتاب والعاملون ببشارته بالرسل، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأولئك يستكملون أجرهم لأنهم مصلحون‏.‏ فكني عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة، لأن الصلاة شعار دين الإسلام، حتى سمي أهل الإسلام أهلَ القبلة، فالمراد من هؤلاء هم من آمن من اليهود بعيسى في الجملة وإن لم يتبعوا النصرانية، لأنهم وجدوها مبدّلة محرّفة فبقوا في انتظار الرسول المخلّص الذي بشرت به التوراة والإنجيل، ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بُعث‏:‏ مثل عبد الله بن سَلاَم‏.‏

ويحتمل أن المراد بالذين يمسكون بالكتاب‏:‏ المسلمون، ثناء عليهم بأنهم الفائزون في الآخرة وتبشيراً لهم بأنهم لا يسلكون بكتابهم مسلك اليهود بكتابهم‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏ خبر عن الذين يمسكون، والمصلحون هم، والتقدير‏:‏ إنّا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

عاد الكلام إلى العبرة بقصص بني إسرائيل مع موسى عليه السلام، لأن قصة رفع الطور عليهم من أمهات قصصهم، وليست مثل قصة القرية الذين اعتدوا في السبت، ولا مثلَ خبر إيذانهم بمن يسومهم سوء العذاب‏.‏ فضمائر الجمع كلها هنا مراد بها بنو إسرائيل الذين كانوا مع موسى، بقرينة المقام‏.‏

والجملة معطوفة على الجمل قبلها‏.‏

و ‏{‏إذْ‏}‏ متعلقة بمحذوف تقديره‏:‏ واذكر إذ نتقنا الجبل فوقهم‏.‏

والنتق‏:‏ الفصل والقلع‏.‏ والجبل الطور‏.‏

وهذه آية أظهرها الله لهم تخويفاً لهم، لتكون مُذَكرة لهم، فيعقب ذلك أخذُ العهد عليهم بعزيمة العمل بالتوراة، فكان رفع الطور معجزة لموسى عليه السلام تصديقاً له فيما سيبلغهم عن الله من أخذ أحكام التوراة بعزيمة ومداومة والقصة تقدمت في سورة البقرة ‏(‏63‏)‏ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور‏}‏ والظلة السحابة، وجملة‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم‏}‏ مقولة لقول محذوف يدل عليه نظم الكلام، وحذفُ القول في مثله شائع كثير، وتقدم نظيرها في سورة البقرة‏.‏

وعُدّي ‏{‏واقع‏}‏ بالباء‏:‏ للدلالة على أنهم كانوا مستقرين في الجبل فهو إذا ارتفع وقع ملابساً لهم ففتتهم، فهم يرون أعلاه فوقهم وهم في سفحه، وهذا وجه الجمع بين قوله ‏{‏فوقهم‏}‏ وبين باء الملابسة‏.‏ وجعل بعض المفسرين الباء بمعنى ‏(‏على‏)‏‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏خُذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ مقول قول محذوف‏.‏ وتقدم تفسير نظيرها في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 174‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ‏(‏172‏)‏ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏173‏)‏ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏174‏)‏‏}‏

هذا كلام مصروف إلى غير بني إسرائيل، فإنهم لم يكونوا مشركين والله يقول ‏{‏أو تقولوا إنما أشرك آباءنا من قبل‏}‏ فهذا انتقال بالكلام إلى محاجة المشركين من العرب، وهو المقصود من السورة ابتداء ونهاية، فكان هذا الانتقال بمنزلة رد العجز على الصدر‏.‏ جاء هذا الانتقال بمناسبة ذكر العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل في وصية موسى، وهو ميثاق الكتاب، وفي يوم رفع الطور‏.‏ وهو عهد حصل بالخطاب التكويني أي بجعل معناه في جبلة كل نسمة وفطرتها، فالجملة معطوفة على الجمل السابقة عطف القصة على القصة‏.‏ والمقصود به ابتداءهم المشركون‏.‏

وتَبَدُّل أسلوب القصة واضح إذ اشتملت هذه القصة على خطاب في قوله‏:‏ ‏{‏أن تقولوا يوم القيامة‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وإذ صرح فيها بمعاد ضمير الغيبة وهو قوله ‏{‏من بني آدم‏}‏ فعموم الموعظة تابع لعموم العظة‏.‏ فهذا ابتداء لتقريع المشركين على الإشراك، وما ذكر بعده إلى آخر السورة مناسب لأحوال المشركين‏.‏

و ‏{‏إذ‏}‏ اسم للزمن الماضي، وهو هنا مجردٌ عن الظرفية، فهو مفعول به لفعل «اذكرْ» محذوف‏.‏

وفعل ‏{‏أخذ‏}‏ يتعلق به ‏{‏من بني آدم‏}‏ وهو معدَّى إلى ذرياتهم، فتعين أن يكون المعنى‏:‏ أخذ ربك كلَّ فرد من أفراد الذرية‏.‏ من كل فرد من أفراد بني آدم، فيحصل من ذلك أن كل فرد من أفراد بني آدم أقر على نفسه بالمربوبية لله تعالى‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من بني آدم‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من ظهورهم‏}‏ ابتدائية فيهما‏.‏

والذُرّيات جمع ذُرَيّةَ، والذّريّة اسمُ جمع لما يتولد من الإنسان، وجمعُه هنا للتنصيص على العموم‏.‏

وأخذُ العهد على الذرية المخرَجين من ظهور بني آدم يقتضي أخذَ العهد عى الذرية الذين في ظهر آدم بدلالة الفحوى، وإلا لكان أبناء آدم الأدْنَون ليسوا مأخوذا عليهم العهد مع أنهم أولى بأخذ العهد عليهم في ظهر آدم‏.‏

ومما يثبت هذه الدلالة أخبار كثيرة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمع من أصحابه، متفاوتة في القوة غيرُ خاللٍ واحدٌ منها عن مُتكلَّم، غير أن كثرتها يؤيد بعضُها بعضاً، وأوضحها ما روى مالك في «الموطأ» في ترجمة «النهيُ عن القول بالقدر» بسنده إلى عمر بن الخطاب قال‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل عن هذه الآية ‏{‏وإذْ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم‏}‏ فقال إن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية فقال‏:‏ خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال‏:‏ خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون وساق الحديث بما لا حاجة إليه في غرضنا، ومحمل هذا الحديث على أنه تصريح بمدلول الفحوى المذكور، وليس تفسيراً لمنطوق الآية، وبه صارت الآية دالة على أمرين، أحدهما‏:‏ صريح وهو ما أفاده لفظها، وثانيهما‏:‏ مفهوم وهو فحوى الخطاب‏.‏

وجاء في الآية أن الله أخذ على الذريات العهد بالإقرار بربوبية الله، ولم يُتعرض لذلك في الحديث، وذُكر فيه أنه ميز بين أهل الجنة وأهل النار منهم، ولعل الحديث اقتصار على بيان ما سأل عنه السائِلُ فيكون تفسيراً للأية تفسيرَ تكميل لما لم يذكر فيها، أو كان في الحديث اقتصار من أحد رواته على بعض ما سمعه‏.‏

والأخذ مجاز في الإخراج والانتزاع قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 46‏]‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من ظهورهم‏}‏ بدل ‏{‏من بني آدم‏}‏ أبدل بعض من كل، وقد أعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن النخل من طلعها قنوانٌ دانيةٌ‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏99‏)‏‏.‏

والإشهاد على الأنفس يطلق على ما يساوي الإقرار أو الحمل عليه، وهو هنا الحمل على الإقرار، واستعير لحالة مغيبة تتضمن هذا الإقرار يعلمها الله لاستقرار معنى هذا الاعتراف في فطرتهم‏.‏ والضمير في أشهدهم‏}‏ عائد على الذرية باعتبار معناه، لأنه اسم يدل على جمعَ‏.‏

والقول في ‏{‏قالوا بلى‏}‏ مستعار أيضاً لدلالة حالهم على الإعتراف بالربوبية لله تعالى‏.‏

وجملة ‏{‏ألستُ بربكم‏}‏ مقولٌ لقول محذوف هو بيان لجملة ‏{‏أشهدهم على أنفسهم‏}‏ أي قررهم بهذا القول وهو من أمر التكوين‏.‏ والمعنى واحد، لأن الذرية لما أضيف إلى ضمير بني آدم كان على معنى التوزيع‏.‏

والاستفهام في ‏{‏ألست بربكم‏}‏ تقريري، ومثله يقال في تقرير من يُظن به الإنكار أو يُنزل منزلة ذلك، فلذلك يقرر على النفي استدراجاً له حتى إذا كان عاقداً قلبه على النفي ظن أن المقّرر يطلبه منه، فأقدم على الجواب بالنفي، فأما إذا لم يكن عاقداً قلبه عليه فإنه يجيب بإبطال النفي، فيتحقق أنه بريء من نفي ذلك، وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم يُعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 34‏]‏ تنزيلاً لهم منزلة من يظنه ليس بحق، لأنهم كانوا ينكرونه في الدنيا، وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا معشر الجن والإنس ألم ياتكم رسلٌ منكم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏130‏)‏‏.‏

والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكُنْه، لأنها وراء المعتاد المألوف، فيراد تقريبها بهذا التمثيل، وحاصل المعنى‏:‏ أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك، وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏قالوا بلى‏}‏ جواب عن الاستفهام التقريري، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة كما تقدم في قوله تعالى‏:‏

‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏‏.‏

وأطلق القول إما حقيقة فذلك قول خارق للعادة، وإمّا مجازاً على دلالة حالهم على أنهم مربوبون لله تعالى، كما أطلق القول على مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ أي ظهرت فيهما آثار أمر التكوين‏.‏ وقال أبو النجم‏:‏

قالت له الطيرُ تقّدم راشداً *** إنك لا ترجع إلا حامداً

فهو من المجاز الذي كثر في كلام العرب‏.‏

و ‏{‏بلى‏}‏ حرف جواب لكلام فيه معنى النفي، فيقتضي إبطال النفي وتقرير المنفي، ولذلك كان الجواب بها بعد النفي أصرح من الجواب بحرف ‏(‏نَعم‏)‏، لأن نعم تحتمل تقرير النفي وتقرير المنفي، وهذا معنى ما نقل عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال‏:‏ «لو قالوا نعم لكفروا» أي لكان جوابهم محتملا للكفر، ولما كان المقام مقام إقرار كان الاحتمال فيه تفصيا من الاعتراف‏.‏

وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب‏:‏ ‏{‏ذرياتهم‏}‏، بالجمع، وقرأ الباقون ‏{‏ذُريتهم‏}‏، بالإفراد‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏شهدنا‏}‏ تأكيد لمضمون ‏{‏بلى‏}‏ والشهادة هنا أيضاً بمعنى الإقرار‏.‏

ووقع ‏{‏أن تقولوا‏}‏ في موقع التعليل لفعل الأخذ والإشهاد، فهو على تقرير لام التعليل الجارة، وحذفُها مع أنْ جار على المطرد الشائع‏.‏ والمقصود التعليل بنفي أن يقولوا ‏{‏إنا كنا عن هذا غافلين‏}‏ لا بإيقاع القول، فحذف حرف النفي جريا على شيوخ حذفه مع القول، أو هو تعليل بأنهم يقولون ذلك، إن لم يقع إشهادهم على أنفسهم كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تقولوا إنما أنزل الكتاب‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏156‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ أن تقولوا بتاء الخطاب وقد حول الأسلوب من الغيبة إلى الخطاب، ثم من خطاب الرسول إلى خطاب قومه، تصريحاً بأن المقصود من قصة أخذ العهد تذكير المشركين بما أودع الله في الفطرة من التوحيد، وهذا الأسلوب هو من تحويل الخطاب عن مخاطب إلى غيره، وليس من الإلتفاف لاختلاف المخاطبين‏.‏ وقرأه أبو عمرو، وحده‏:‏ بياء الغيبة، والضمير عائد إلى ذريات بني آدم‏.‏

والإشارة ‏{‏بهذا‏}‏ إلى مضمون الاستفهام وجوابه وهو الاعتراف بالربوبية لله تعالى على تقديره بالمذكور‏.‏

والمعنى‏:‏ أن ذلك لمَّا جُعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذرَ يوم القيامة، إذا سئل عن الإشراك، بعذر الغفلة، فهذا إبطال للاعتذار بالغفلة، ولذلك وقع تقدير حرف نفي أي أنْ لا تقولوا إلخ‏.‏

وعُطف عليه الاعتذار بالجهل دون الغفلة بأن يقولوا إننا اتبعنا آباءنا وما ظننا الإشراك إلا حقاً، فلما كان في أصل الفطرة العلمُ بوحدانية الله بطل الاعتذار بالجهل به، وكان الإشراك إما عن عمد وإما عن تقصير، وكلاهما لا ينهض عذراً، وكل هذا إنما يصلح لخطاب المشركين دون بني إسرائيل‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏وكنا ذرية من بعدهم‏}‏ كنا على دينهم تبعاً لهم لأننا ذرية لهم، وشأن الذرية الاقتداء بالآباء وإقامة عوائدهم فوقع إيجاز في الكلام وأقيم التعليل مقام المعلل‏.‏

و ‏{‏من بعدهم‏}‏ نعت لذرية لما تؤذن به ذرية من الخلفية والقيام في مقامهم‏.‏ والاستفهام في ‏{‏أفتهلكنا‏}‏ إنكاري، والإهلاك هنا مستعار للعذاب، والمبطلون الآخذون بالباطل، وهو في هذا المقام الإشراك‏.‏

وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان بالإله الواحد مستقر في فطرة العقل، لو خُلي ونفسه، وتجرد من الشبهات الناشئة فيه من التقصير في النظر، أو الملقاة إليه من أهل الضلالة المستقرة فيهم الضلالة، بقصد أو بغير قصد، ولذلك قال الماتريدي والمعتزلة‏:‏ أن الإيمان بالإله الواحد واجب بالعقل، ونسب إلى أبي حنيفة وإلى الماوردي وبعضضِ الشافعية من أهل العراق، وعليه أنبتت مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك، وقال الأشعري‏:‏ معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل تمسكاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ ولعله أرجع مؤاخذة أهل الفترة على الشرك إلى التواتر بمجيء الرسل بالتوحيد‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصل الآيات‏}‏ معترضة بين القصتين، والواو اعتراضية، وتسمى واو الاستئناف أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات أي آيات القرآن، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏55‏)‏‏.‏ وتفصيلها بيانها وتجريدها من الإلتباس‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏ولعلهم يرجعون‏}‏ عطف على جملة‏:‏ ‏{‏وكذلك نفصل الآيات‏}‏ فهي في موقع الاعتراض، وهذا إنشاء ترجّي رجوععِ المشركين إلى التوحيد، وقد تقدم القول في تأويل معنى الرجاء بالنسبة إلى صدوره من جانب الله تعالى عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏21‏)‏‏.‏

والرجوع مستعار للإقلاع عن الشرك، شُبه الإقلاع عن الحالة التي هم متلبسون بها بترك من حل في غير مقره الموضع الذي هو به ليرجع إلى مقره، وهذا التشبيه يقتضي تشبيه حال الإشراك بموضع الغُربة، لأن الشرك ليس من مقتضى الفطرة فالتلبس به خروج عن أصل الخلقة كخروج المسافر عن موطنه، ويقتضي أيضاً تشبيه حال التوحيد بمحل المرء وحيّه الذي يأوي إليه، وقد تكرر في القرآن إطلاق الرجوع على إقلاع المشركين عن الشرك كقوله‏:‏ ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براءٌ مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمةً باقيةً في عقبه لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26 28‏]‏ أي يرجعون عن الشرك، وهو تعريض بالعرب، لأنهم المشركون من عقب إبراهيم، وبقرينة قوله‏:‏ ‏{‏بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 29‏]‏، فإني استقريْتُ من اصطلاح القرآن أنه يشير بهؤلاء إلى العرب‏.‏